دكتور رءوف رشدي يكتب: “من العائدين إلى «النوفو ريش»: سردية البذخ والصعود بلا جذر”

في أوائل التسعينات، كانت مصر على أعتاب تحولات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة. انتهت الحرب في الخليج، وعاد عشرات الآلاف من المصريين العاملين هناك، محمّلين بثروات نسبية، لم يكونوا يحلمون بها من قبل. لم تكن هذه الثروات بحجم ما امتلكته الطبقات الأرستقراطية القديمة، لكنها كانت كافية لتأسيس طبقة هجينة، تشكّل ملامحها بعيدًا عن أي عمق ثقافي أو انتماء طبقي راسخ.
هؤلاء العائدون من الخليج – الذين أُطلق عليهم مجازًا “أولاد الريالات” – بدأوا في استثمار أموالهم في مشاريع صغيرة أو تجارة، أو في الأغلب، في استهلاك مظهري صرف: شقق في المهندسين، سيارات حديثة، ذهب كثيف، وفجأة: شاليهات في الساحل الشمالي، قبل أن يكون “الساحل” كما نعرفه الآن.
لكن هؤلاء لم يحملوا معهم من الخليج ثقافة أو ذوقًا، بل عادوا محملين بثقافة الاستهلاك السريع، والفراغ المعرفي، والتمجيد الأجوف لفكرة “المال هو النجاح”.
الجيل الثاني: أولاد الكاش، لا القيم
كبر أولاد هذه الطبقة الجديدة في مدارس خاصة، لا لتعلُّم شيء، بل للهروب من الواقع الطبقي الأدنى. اختلطوا بالطبقات الأقدم، فقلّدوهم في الشكل، لكن دون جوهر. صار المال هو الجواز الاجتماعي الوحيد، والأسماء لا تعني شيئًا إن لم تكن مقرونة بسيارة ألمانية أو حفلة في مارينا.
ومع الألفينات، بدأت هذه الطبقة تتمازج مع موجة جديدة: “النوفو ريش” الحقيقيون، أولاد السوشيال ميديا، وأثرياء التريند، وصنّاع المحتوى الفارغ الذي يدر ملايين، بلا أي مساهمة حقيقية في الاقتصاد أو الثقافة أو حتى الفن.
ظهر حينها نوع جديد من “الذوق”، أو بالأحرى، انعدامه.
من الخليج إلى المهرجانات: انحدار الذوق في خط مستقيم
بدأت هذه الطبقة المتداخلة – العائدون من الخليج، والنوفو ريش الرقميون – في فرض ذوق موسيقي جديد، قائم على الإيقاع الصاخب والكلمات السوقية، تحت شعار “أصلنا من الحارة”. تحوّل المهرجان من حدث إلى نوع موسيقي، ومن نوع موسيقي إلى ثقافة كاملة من اللبس، والكلام، والحركات، والتفاخر.
وتحوّل الساحل الشمالي إلى مسرح مفتوح لهذه الثقافة الجديدة: سيارات فارهة، بوتيكات خالية من المضمون، مطاعم لا تُقدَّم فيها وجبة بل تجربة استعراضية، والناس لا تأكل بل تُصوّر، ولا تسمع بل “تتش”، ولا تحتفل بل “تباهي”.
الخطر الأكبر: حين يصبح “النموذج” هو الهراء
المشكلة ليست في وجود الأغنياء الجدد، فكل مجتمع حي يفرز شرائح اقتصادية صاعدة.
لكن الخطر هو أن يكون نموذج النجاح الوحيد المطروح هو نموذج “التهريج”، وأن يكون طريق الثراء الوحيد هو تقليد الأرخص صوتًا، لا الأعمق فكرًا.
أن تصبح ثقافة مجتمع بأكمله معلقة في رقبة مهرجان بلا معنى، أو تيك توكر لا يمتلك من الحياة سوى شاشة وفلتر.
من “مارينا 1” إلى “التيك توك هاوس”
الرحلة من العائدين من الخليج إلى صنّاع المحتوى التافهين هي رحلة مصرية بامتياز، تشبه صعود ناطحة سحاب من طين.
ما لم نستعد فيها قيمة “الذوق”، ونعيد الاعتبار إلى “الفكر”، سنبقى نتفرج على طبقات تتكوّن بالمال، لكنها تنهار داخليًا قبل أن تكتمل.
وستبقى مصر، بكل تاريخها، محكومة بمن يملك الصوت الأعلى، لا العقل الأعمق.
تابعونا لمزيد من التغطيات الحصرية والمحتوي المتنوع عبر أقسامنا المتجددة، حيث نقدم لكم أحدث أخبار وتقارير علي مدار الـ24 ساعة، وأحدث أخبار مصر و اقتصاد وبنوك وبورصة إلي جانب تغطية حصرية من خلال سفارات وجاليات ، وتغطية شاملة للتطوير العقاري من خلال قسم عقارات ونتشارك في الترويج للسياحة والآثار المصرية من خلال قسم سياحة وآثار ، إضافة لأخبار خاصة في قسم ثقافة وفنون و علوم وتكنولوجيا ومنوعات ، كما نولي اهتمام خاص بـ الرياضة و المرأة ونقدم لكم كل يهم التعليم والطلاب من خلال أخبار الجامعات .